الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحله ومن والاه ثم أما بعد:
الأثر عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه
– له ثلاث طرق، ولا تخلو طريق من مقال:
الطريق الأول:
رواه أبو يعلى – كما في " تفسير ابن
كثير " ( 1 / 468 ) – قال : حدثنا أبو خيثمة حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي
عن ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال :
ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم
في صداق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصَّدُقات فيما
بينهم أربع مائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة
لم تسبقوهم إليها فلا أعرفنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربع مئة درهم، قال: ثم
نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيتَ النَّاس أن يزيدوا في مهر
النساء على أربع مائة درهم؟ قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن
؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول {وآتيتُم إحداهنَّ قنطاراً} الآية؟ قال:
فقال: اللهمَّ غفراً، كل النَّاس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: أيها الناس
إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربع مائة درهم، فمن شاء أن يعطى من
ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل.
قلت: وإسناده ضعيف، فيه: مجالد بن سعيد،
وقد ضعَّفه يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن مهدي وأحمد بن حنبل والنسائي والدارقطني
وغيرهم.
انظر " التاريخ الكبير " للبخاري
(8 / 9)، و" الضعفاء والمتروكين " لابن الجوزي (3 / 35).
والأثر رواه البيهقي (7 / 233) لكن بإسقاط
" مسروق " بين الشعبي وعمر، لذا قال عنه البيهقي: هذا منقطع.
فالشعبي – وهو عامر بن شراحيل – وُلد لست
سنين مضت من خلافة عمر على المشهور، كما في " تهذيب الكمال " للمزي (14
/ 28)، وروايته عن عمر مرسلة كما قال أبو زرعة الرازي وأيده العلائي في "جامع
التحصيل" (ص 204)، وبيَّن المزي في " تهذيب الكمال " (14 / 30) أنه
لم يسمع من عمر.
وأظن أن الوهم فيه من "مجالد"
فيكون قد ذكر – مرة – مسروقاً، ومرة أسقطه.
تنبيه:
الحديث في " أبي يعلى الكبير
" كما قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 284) والعجلوني في
" كشف الخفاء " (2 / 154)، وليس هو في " مسنده " المطبوع البتة.
الطريق الثاني:
رواه عبد الرزاق في " المصنف
" (6 / 180) عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال
عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر؛ إن الله
يقول " وآتيتم إحداهن قنطاراً من ذهب " – قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله
بن مسعود – " فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئاً "، فقال عمر: إن امرأة خاصمتْ
عمر فخصمتْه.
قلت: وهو ضعيف، فيه علتان:
أولاهما: الانقطاع بين أبي عبد الرحمن السلمي
وعمر بن الخطاب، فهو لم يسمع منه كما قال ابن معين وأقره العلائي في " جامع التحصيل
" (ص 208).
والثانية: ضعف قيس بن الربيع، قال يحيى
بن معين – عنه -: ليس بشيءٍ، وقال -مرة -: ضعيف، وقال -مرة -: لا يُكتب حديثه، وقيل
لأحمد: لم ترك الناس حديثه؟ قال: كان يتشيع، وكان كثير الخطأ في الحديث، وروى أحاديث
منكرة، وكان ابن المديني ووكيع يضعفانه، وقال السعدي: ساقط، وقال الدارقطني: ضعيف الحديث،
وقال النسائي: متروك الحديث. انظر " ميزان الاعتدال " (5 / 477) و
" الضعفاء والمتروكين " لابن الجوزي (3 / 19).
وقد ذكر شيخنا الألباني – رحمه الله – العلتين
في " إرواء الغليل " (6 / 348).
الطريق الثالث:
رواه الزبير بن بكار – كما في " تفسير
ابن كثير " (1 / 468) – قال: حدثني عمِّي مصعب بن عبد الله عن جدِّي قال: قال
عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة -يعني: يزيد بن الحصين
الحارثي -فمَن زاد ألقيتُ الزيادة في بيت المال، فقالت امرأةٌ من صفة النِّساء طويلة،
في أنفها فطس: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: إنَّ الله قال {وآتيتم إحداهنَّ قنطاراً}
الآية، فقال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ.
قلت: وإسناده ضعيف، فيه علتان:
الأولى: ضعف جدِّ مصعب بن عبد الله وهو
مصعب بن ثابت، قال يحيى بن معين: ضعيف، وقال -مرة -: ليس بشيءٍ، وقال أحمد: أراه ضعيف
الحديث، وقال السعدي: لم أر النَّاس يحدِّثون عنه، وقال ابن حبان: انفرد بالمناكير
عن المشاهير فلمَّا كثر منه استحق مجانبة حديثه.
انظر " الضعفاء " للعقيلي
" (4 / 196)، و" المجروحين " لابن حبان (3 / 28)، و" الضعفاء والمتروكين
" لابن الجوزي (3 / 122).
والثانية: الانقطاع بينه وبين عمر رضي
الله عنه.
وبعد، فلا يطمئن القلب لتحسين القصة عن عمر لكثرة علل طرقها، ولعل هذا مما يزيدها ضعفاً، وهو ألا تأتي مثل هذه القصة المشهورة إلا من طريق هؤلاء الضعفاء.
ومما يدل على ضعف إنكار المرأة على عمر أمران:
الأول: أنه قد صح عن عمر النهي عن المغالاة في المهور
من طريق صحيح، وليست فيه هذه الزيادة المنكرة:
عن أبي العجفاء السلمي قال: قال عمر بن
الخطاب: " ألا لا تغالوا صدقة النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى
عند الله لكان أولاكم بها نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، ما علمتُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم نكح شيئاً مِن نسائه ولا أَنكح شيئاً مِن بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية
". رواه الترمذي (والنسائي (3349) وأبو داود (2106) وابن ماجه (1887).
قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والأوقية: أربعون درهماً – كما ذكره الترمذي
-.
تنبيه:
ذكر العجلوني في "كشف الخفاء"
(1 /) و (2 / 155) رواية عبد الرزاق من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن عمر، وجعلها
عن أبي العجفاء عن عمر! وهو وهم، فلم يأت إنكار المرأة من طريق أبي العجفاء البتة،
وهي رواية السنن، وها هما الروايتان -ولله الحمد – بين أيدينا، وإنما نبهتُ على هذا
لأن الدارقطني – كما سيأتي -رجح رواية أبي العجفاء فلعل أحداً أن يخلط بين الخطأ الذي
في " الكشف " وبين الصواب الذي في السنن " فلزم التنبيه.
والثاني: أنه لا يخفى على مثل عمر – إن شاء الله – مثل هذه الآية، وأنه كلامه ليس في النهي الشرعي، بل هو للإرشاد كما هو واضح عند أدنى تأمل، ومما يمكن الاستئناس به للأمرين – وهما علمه بالآية وأنه لم ينه النهي الشرعي – ما رواه البيهقي عنه قال – رضي الله عنه -: " لقد خرجتُ وأنا أريد أن أنهى عن كثرة مهور النساء حتى قرأت هذه الآية {وآتيتم إحداهن قنطاراً}.
قال البيهقي: هذا مرسلٌ جيِّدٌ.
وقضية غياب آية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [ آل عمران / 144 ] التي غابت عنه يوم وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم فلا يمكن الاستدلال بها لتثبيت غياب هذه الآية كذلك ؛ لأن سبب غياب
تلك الآية معقول وهو مصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم التي تنسي المحب ما يعلم
، وليس الأمر كذلك هنا ، فلا سبب يمكن أن يقال في ذهول عمر عن هذه الآية، أو يقال كان
جاهلا بها ، ويرده ما سبق ذكره من أثر البيهقي ، وما هو معلوم عن عمر من دقة فهمه
– لا حفظه فقط – لكتاب الله تعالى ، ويدل على ذلك حديث الصحيحين في اختبار الصحابة
في معنى قوله تعالى { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ …} الآيات ، فلما لم
يعلم الصحابة معناها وأمر ابنَ عباس أن يقول لهم ما يعلم وقال :إنها أجلُ النبي صلى
الله عليه وسلم، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم ، والحديث في الصحيحين :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر
يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال:
إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا
ليريهم مني، فقال: ما تقولون في {إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين
الله أفواجاً} حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا
وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس أكذاك
تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله
له {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة فذاك علامة أجلك {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه
كان تواباً} قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
رواه البخاري (4043) في كتاب المغازي، باب
منزل النبي يوم الفتح، و (4686) في كتاب تفسير القرآن، باب قوله {فسبِّح بحمد ربِّك
واستغفره إنه كان توَّاباً}.
وأما ما ورد من حفظه للقرآن فكثير ومن أشهره:
إنكاره على هشام بن حكيم قراءته سورة الفرقان، وهو حديث مشهور معلوم رواه البخاري
(2287) ومسلم (818).
فائدة (1):
سئل الدارقطني – رحمه الله – عن حديث السنن
السابق، وتكلم عليه، وذكر طريق مجالد وتكلَّم عليها، وخلاصة ما قال رحمه الله رحمة
واسعة:
ولا يصح هذا الحديث إلا عن أبي العجفاء.
" علل الدارقطني " (2 / 238).
فائدة (2):
يستدل الرافضة بهذا الأثر كثيراً للطعن
في عمر – رضي الله عنه – وأنه صوَّبته امرأة في حكم شرعي، ولما كان الرافضة أغبى الطوائف
المنتسبة للإسلام فإنهم لم يتنبهوا إلى أن في القصة – على فرض صحتها -تزكية عظيمة لعمر
– رضي الله عنه – من قبوله للحق ممن هو دونه، بل ومن امرأة، ومن ثّمَّ اعترافه بذلك
أمام الناس، وهو مما لا يفعله إلا القلائل من خلق الله على مدى العصور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله
رحمة واسعة:
والجواب : أن هذه القصة لو صحت فهي دليل
على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من
امرأة، ويتواضع له، وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة، وليس من شرطِ الأفضل
أن لا ينبهه المفضول لأمرٍ من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان { أحطت بما لم تحط به
وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقينٍ} [سورة النمل / 22]، وقد قال موسى للخضر {هل أتبعك على أن
تعلمني مما علمت رشداً} [سورة الكهف / 66]، والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين
عمر وبين أشباهه من الصحابة، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريباً من موسى
فضلاً عن أن يكون مثله، بل الأنبياء المتِّبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم
أفضل من الخضر. وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل. " منهاج
السنة " (6/76، 77).
كتبه: إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي أبو
طارق.
والله تعالى أعلى وأعلم ـــ وأصلى وأسلم
وأبارك على سيدي وسيد الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
No comments:
Post a Comment